فصل: الغناء بالقرآن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.الغناء بالقرآن:

263 - تلونا من قبل قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16 - 19].
هذا النص الكريم يدل على أنَّ تلاوة القرآن بتوجيه من الله تعالى؛ لأنه سبحانه وتعالى - يقول: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ}، أي: إذا تلونا عليك القرآن واستحفظته فاتبع القراءة التي علمك الله تعالى، وهو ما يدل عليه قوله تعالى: {فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ} أي: اتبع طريقة القرآن الذي قرأناه، ولا تبتعد عنه، فإنَّ القرآن يراد به القراءة أحيانًا، كما قال تعالى: {وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78].
والقرآن في أصله كتاب كريم مبين، وعبَّر عنه سبحانه وتعالى - بقرآن إيماءً إلى أنه كتاب نزل بنصه وبطريقة قراءته، وذلك لا يستحفظ باقيًا في الأجيال بمجرد الكتابة، بل بالقراءة وحفظه في الصدور متلوًّا بما علم الله سبحانه وتعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام في تلاوته إنما يتلو بتعليم من الله تعالى في مدِّه وغنّه، وتشديده وتسهيله، فإنه إذا نزل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نزل متلوًّا.
وعلى ذلك تكون القراءة الكاملة للقرآن الكريم هي القراءة التي التزمها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بأمر ربه وتعليمه، ولذلك يقول العلماء: إن القراءة سنة متبعة، لا يصح لمؤمن أن يحيد عن طريقة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد علَّم النبي أصحابه هذه القراءة كما علَّمه ربه، وعلَّم الصحابة تلاميذهم من التابعين تلاوة النبي عليه الصلاة والسلام، وتواترت قراءة النبي الكريم كما تواتر القرآن الكريم، فكان محفوظًا بطريق تلاوته كما كان محفوظًا بذاته، بل إنَّ الفصل بين طريقة التلاوة وذات القرآن الكريم فصل بين متلازمين، فإن السلف الصالح والخلف من بعدهم ما كانوا يعتمدون على المكتوب في استحفاظ القرآن الكريم، إنما يقرأ طالب القرآن على مقرئ يقرئه، ولا يعتمد على مكتوب كتب؛ لأنَّ المكتوب قد يجري فيه التصحيف والتبديل، أمَّا ما حفظ في الصدور فإنه لا يعروه تغيير ولا تبديل ولا تحريف.
ولقد أمر الله تعالى نبيه الكريم بأن يرتل القرآن ترتيلًا، فقال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 14] ولقد نسب سبحانه وتعالى - الترتيل إلى ذاته العلية فقال تعالى: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}.
ولقد وضع العلماء المقاييس والضوابط التي تميّز الترتيل المطلوب في تلاوة القرآن الكريم، ولم يتركوا الأمر فرطًا، بل وضعوا ميزانًا يميز الترتيل المطلوب عن القراءات البعيدة عن الترتيل، وهو علم التجويد، وعلم القراءات، ففي هذين العلمين يتميز المنهاج المطلوب في الترتيل عن غيره مما يبتدعه الناس.
264 - ولقد كان التابعون تلاميذ الصحابة يتبعون في قراءة القرآن الترتيل الذي تعلَّموه من الصحابة كما أشرنا، وهو الترتيل الذي قرأ به الصحابة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو الترتيل الذي علَّمه الله تعالى لنبيه، فكان السند متصلًا اتصالًا وثيقًا، وتواترت القراءة، تواتر القرآن كما نوَّهنا.
ولكن حدث في العصر الأموي وهو عصر التابعين ومن امتدَّ به الأجل من الصحابة رضي الله تعالى عنهم - أن دخل الغناء الفارسي، وتشايع ذلك الغناء بألحانه.
ويظهر أنَّ هذا الغناء تسامى بألحانه إلى القرآن الكريم، فالتوت بعض الألسنة عن الترتيل المتَّبع في عصر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن كان حيًّا من المعمّرين من الصحابة استنكر ذلك، يروى في هذا عن زياد النميري أنه جاء مع بعض القراء إلى أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقيل له: اقرأ فرفع صوته وطرب، وكان رفيع الصوت، فكشف أنس عن وجهه، وكان على وجهه خرقة سوداء، فقال: يا هذا، ما هكذا كانوا يقرءون. وكان إذا رأى شيئًا ينكره كشف الخرقة عن وجهه.
وإنَّ هذا الخبر عن ذلك الصحابي الجليل يدل على أمرين:
أولهما: إن التطريب بالقرآن برفع الصوت وخفضه مسايرة لنغمٍ أو نحو ذلك ما كان في الترتيل الذي تلقَّاه الصحابة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
والثاني: إنه يدل على أنَّ ذلك التطريب بقراءة القرآن قد حدث في العصر الأموي بعد أن دخل الغناء الفارسي، فهو بدعة ابتدعت، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وذلك فوق أنَّ القرآن لا بُدَّ أن يرتل ترتيلًا، وذلك ليس ترتيل القرآن، والقراءة كما قلنا متبعة.
وإنَّ التلاوة الحق كما حدَّ العلماء حدودها، وقرَّروا مقياسها في علم يدرس قد ذكر القرآن خواصها، وهي في آثارها في نفس القارئ، وفي نفس من يسمعها، وفيما تدل عليه من منزلة القرآن، ومكانته في هذا الوجود.
فالله تعالى يقول في مكانته: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 31]، أي: إنَّ هذا القرآن له قوة في النفوس وفي الوجود؛ بحيث إنه يمكن أن تسيّر به الجبال، أو تكلَّم به الموتى أو تقطَّع به الأرض، فله في النفس كمال الرهبة، وله كمال التأثير، وله في الآذان جمال التعبير، فلو كانت الجبال تسير أو الأرض تقطع، أو الموتى يسمعون القرآن فإنه يكون لقراءة القرآن، فهل يتأتَّى هذا التأثير مع تلوي الألسنة والأصوات بنغماته يترنَّح بها القارئ ذات اليمين وذات الشمال، والآهات تتعالى، ويكون المكاء والتصدية.
والقرآن وصفه الله تعالى بأنه ذو الذكر، وأقسم به تعالى، فقال سبحانه وتعالى: {وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ}، أي: القرآن الذي يصحبه ذكر الله تعالى، وهو الذي تطمئن به قلوب المؤمنين، كما قال الله تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، وسمى القرآن ذكرًا، فقال - جلَّ وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، فهل تلوية الأصوات والنبرات بغير الترتيل المنزَّل من عند الله تعالى يكون الذكر لله تعالى، والاتعاظ بقرآنه، أم هي النغمات بين التطرية والتعلية هي التي تهتز لها النفوس طريًا، وتعلو بها الأصوات إعجابًا بالمغنِّي وعجبًا.
والقرآن قد وصف الله تعالى المؤمنين عند تلاوته، فقال تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] فهل تكون التلاوة للمؤمنين الذين إذا سمعوا القرآن بكوا بهذه الأصوات الذي تحدث الضجَّات المتوالية.
ويصف الله تعالى القرآن الكريم فيقول - عز من قائل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 9].
ويبين سبحانه وتعالى - قوة تأثير القرآن في قلوب المتَّعظين، وفي قلوب من يتفهَّمونه، فقال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]، فهل يرى أيّ مدرك للمعاني القرآنية أن ذلك يتفق مع التغنِّي والتطريق الذي يصنعه قراء العصر، إنَّ القارئ يكون مشغولًا بالطرب عن معنى القرآن وهدايته وعظاته فلا يتدبره، ولا يدرك معناه، ويكون على قلوب أقفال بما يحدثه التغني والتطريب، والاجتهاد في إثارة النفوس لا لتتعظ، ولكن لتضع ستارًا بينها وبين ما في القرآن، والله تعالى يصف القرآن الكريم بقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23].
وإن هذه الآيات التي تلوناها قبسة من نور القرآن الكريم، وهي تدل على أنه ليس شعرًا يتغنَّى به، ويتنزَّل على لحون الأعاجم قديمها وحديثها، ولكنه كتاب هداية للعظة، والاعتبار، وتوجيه النفوس، وكل تطريب بالألحان قديمه وجديده هو إلهاء عن ذكر الله تعالى، وإبعاد عن مراميه ومغازيه، فتكون النفس مشغولة بالنغم المهلي عن معنى القرآن ومرماه.
265 - وإننا لا نبعد بهذا الكلام عن حقيقة مقررة ثابتة، وهي اتباع السلف في التلاوة، وهي تنتهي في أصلها إلى منزّل القرآن الكريم الذي جعله حجَّة وبرهانًا ومعجزة، وقال سبحانه وتعالى - فيه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، كما تلونا من قبل.
فكل مخالفة للسلف الصالح في التلاوة مخالفة لما أمر الله تعالى به في قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا}، ولكن وردت آثار عن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم يوهم ظاهرها جواز التغني بالقرآن، والتطريب به، والترجيح فيه، وكان لنا أن نحكم بعدَم صحة نسبتها إلى الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن ذلك يكون إذا كانت تدل قريبًا أو بعيدًا على جواز الغناء الذي نراه الآن من بعض القراء، وعلى ما يريده الذين لم يعرفوا بأنهم أرادوا للإسلام وقارًا، بل يريدونه بورًا، أو كما يبدو في كتاباتهم، والله عليم بضمائرهم.
ولكنَّا إذا تفهَّمنا هذه الآثار عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعن صحابته - رضوان الله تعالى عليهم، وما ترمي إليه - إن صحت النسبة، وجدنا أننا لسنا في حاجة إلى ردِّ صحيح السند منها؛ لأن متنه لا يخالف الترتيل الذي جاء به رب القرآن ورب محمد، ورب العالمين.
1 - لقد روي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال فيما رواه عنه البراء بن عازب: «زينوا القرآن بأصواتكم».
2 - وأخرج مسلم: «ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن».
3 - ولقد كان عليه الصلاة والسلام يسره أن يسمع القرآن من أبي موسى الأشعري، حتى روي أنه قال في سرور بقراءته: «لقد أعطيت مزمارًا من مزامير داود»، وأنه سمعه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فاستطاب ما يسمعه من صوته، وأبو موسى لم يشعر، فلمَّا شعر قال: «لو أعلم أنك تسمع لقراءتي لحبَّرت لك تحبيرًا».
4 - وروي عن عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «تعلموا القرآن، وغنّوا به، واكتبوه، فوالله إنه لأشد تفصيًا من المخاض من العقل».
5 - قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عام الفتح في مسيرته سورة الفتح على راحلته فرجَّع، والترجيع في القراءة ترديد الحروف.
هذه الأخبار واردة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهي في ظاهرها تدل على جواز التغني بالقرآن والترجيع فيه والتطريب به، وقد طار بهذه الآثار أولئك الذين يروجون قراءة القرآن بألحان الأعاجم، وكان لنا أن نردَّها لمخالفتها المتواتر عن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم.
فلننظر إليها فهل تؤدي في مدلولها إلى جواز اتخاذ القرآن سبيلًا للتطريب في عصرنا، لتحدث القراءة طريًا، ولا تحدث عظة واعتبارًا، وخشية من الله، وإحساسًا من المؤمن بأنَّ الله تعالى يخاطبه بهذا القرآن.
ولننظر فيها خبرًا نتعرَّف ما يدل عليه في ظاهره، وفي حقيقته.
أمَّا الخبر الأول: وهو ما نُسِبَ إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من أنه قال: «زينوا القرآن بأصواتكم»، فإنه لا يفسَّر بظاهره؛ لأنَّ القرآن زيّن بذاته، ولكن المتأمّل يرى أنَّ القراءة المرتّلة التي يلاحظ فيها المأثور من القراءات، وملاحظة المعاني فيها، فيرتفع الصوت فيها نسبيًّا في آيات التهديد والإنذار، ويخضعه نسبيًّا في آيات التبشير، ويقرأ قراءة المتأمّل في الآيات الكريمة الداعية إلى التفكير، فإن هذا بلا شك موافق للترتيل الذي أخذناه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ومصور للمعاني القرآنية من غير أن تكون القراءة صياحًا نمطيًّا، ومن غير أن تكون تلحينًا أعجميًّا، ولينًا في الإلقاء لا يسوغ.
وإنَّا نحسب أن تزيين القراءة لا يكون إلّا بالترتيل، فالتزيين في كل شيء بما يناسبه، وذلك واقع في المعنويات كما هو واقع في الحسيات والأشياء والأشخاص، ولا شكَّ أن القراءة تكون بما يناسب معاني القرآن، وموضع العظة والاعتبار والتأمل فيه، ولا يمكن أن يفسّر التزيين بالتلوي في الحروف والكلم، فإن ذلك شيين، وليس بزين.
ولنرجع إلى تفسير البراء الذي روى هذا الخبر، فقد قال في تفسيره له: «زينوا القرآن بأصواتكم». أي: الهجوا به واشغلوا به أصواتكم، واتخذوه شعارًا وزينة، وقيل: إن معناه الحضّ على قراءة القرآن.
وإن هذين التفسيرين وإن كانا غير ما فسرنا به الخبر، يتلاقيان مع تفسيرنا، ولا ينافرانه، وهما يتفقان مع غيره من الأحاديث في هذا الباب.
266 - ولننظر فيما أخرجه مسلم من قول للنبي عليه الصلاة والسلام؛ إذ قال: «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن». فقد فسَّره بعض العلماء بأنَّ التغني هنا تحسين الصوت بقراءة القرآن، بأن يعوّد لسانه النطق السليم من قراءة القرآن بإخراج الحروف من مخارجها، واتِّباع الترتيل المحكم عن النبي عليه الصلاة والسلام في المدِّ والغنّ والإدغام، والفصل والوصل، والوقوف في موضع الوقف، ووصل القراءة في مواضع الوصل ملاحظًا المعاني، ومدركًا ما يقرأ، وهذا يتلاقى مع ما روي عن ابن عمر أنه قال: حسّنوا أصواتكم بالقرآن. وما روى عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «زينوا أصواتكم بالقرآن».
ولا شكَّ أن الوهم الذي دخل على الذين يقرءون القرآن بألحان الأعاجم، والذي استنكره أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، هذا الحديث هو العماد الذي يقوم عليه عمل هؤلاء، نحن لا نرى فيه ما يؤيد كلامهم.
وإن التغنِّي مصدر غنَّى يغنِّي تغنية، وهو فيما أعتقد غير الغناء؛ لأنَّ الغناء هو القصد إلى إسماع غيره ليطرب ويتطرّب لا ليتعظ ويعتبر، أمَّا التغني فهو استمتاع المتكلم مما يتكلم به مترنمًا بالنطق، مستحبًّا له مستملحًا، مستطيبًا للكلمات، ذواقًا لها ولمعانيها، ولننزل من مرتبة القرآن السامية إلى منحدر الشعر، فإنَّ إنشاد الشعر من الشاعر استمتاع بالألفاظ، ورنّة الموسيقى في الشعر يهتز بها مترنمًا، يفعل ذلك ولو لم يسمعه أحد، ولو لم يقصد إلى سماع أحد، وكذلك المؤمن القارئ للقرآن يتذّوق ألفاظه ويدرك الصور البيانية التي تصدر عن أساليبه، ويخضع لما يشتمل عليه من عظات وعبر، ويحسّ بأن الله تعالى يخاطبه، وتعتريه روحانية من الألفاظ ونغمها وجلال معانيها.
هذا هو التغني الذي نفهم أنه خاصة من خواص المؤمنين، ويفعله الصديقون، وليس منه ما نسمعه الآن من القراء الذين يطربون، ويرجعون الحروف، ويلوون بها الألسنة، فإنَّ هذا غناء وليس مجرَّد تغني، وإن هذا النظر يتلاقى مع بعض الروايات، فقد روى أبو سعيد الخدري في قوله عليه الصلاة والسلام: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن». قال: كانت العرب تولع بالغناء والنشيد في أكثر أقوالها، فلما نزل القرآن أحبّوا أن يكون القرآن هجيرهم مكان الغناء، فقال عليه الصلاة والسلام: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن». أي: يشبع نفسه بحسن ترتيله وتلاوته ليكون هو الذي يستمتع به من كلامهم.
وقد روى سفيان بن عيينة عن سعد بن أبي وقاص أن تغنَّى هنا بمعنى استغنى، وأنَّ بعض المعاجم يفسِّر التغني بمعنى الاستغناء، وفقد جاء في الصحاح: تغنَّى الرجل بمعنى استغنى، فمعنى النص الشريف: ليس منا من يستغن بالقرآن عن أساطير الأولين وأقصايص القصاصين.
وقد أنكر الشافعي تفسير التغني في الحديث بالاستغناء، وتابع في ذلك ابن جرير الطبري، وقال الطبري: إنَّ التغني هو حسن الصوت بالترجيع، وهذا التفسير يتلاقى مع قولنا الذي أسلفناه، وهو التمتع بحلاوة الألفاظ القرآنية ورنين أساليبها.
بترجيحع بعض الجمل والكلمات من غير قصد إلى التطريب، وإيقاظ المشاعر بغير نغم القرآن، بل بنغم الألحان الذي يمنع ذكر الله تعالى، والخشوع الذي وصف القرآن به؛ إذ قال سبحانه وتعالى: {مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23].
ومهما تكن الأقوال في معنى التغني، فمن المتفق عليه بين الموسعين والمتمسّكين كابن المسيب ومالك وابن حنبل، وغيرهم، أنَّ القراءة بالألحان والتطريب والغناء لا تجوز؛ لأنه يخل بمقام القرآن، ويوجه الناس إلى الطرب بالألحان بدل الاستفادة بمواعظ القرآن وهدايته، وتعرُّف أحكامه، وما فيه من أدلة التوحيد وأحوال الأقوام مع الرسل السابقين.
وإنه يجب فهم التغني على ضوء قوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وعلى ضوء ما عرفناه من قراءة النبي عليه الصلاة والسلام وترتيله الذي علّمه الله تعالى إياه وعمَّا أثر عن السلف الصالح.
ولقد قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: «أحسن الناس صوتًا من إذا قرأ رأيته يخشى الله تعالى»، فهل هذا يتفق مع التلوي بالألفاظ، وعدم مراعاة المعاني، وإنما تراعى الألحان، والناس في طرب بسماعها ينصتون إليها ويطربون، ولا تنالهم الخشية من خطاب الديَّان لهم بالقرآن الكريم، كلام الله تعالى بيانه.
267 - ولننتقل بعد ذلك إلى حديث أبي موسى الأشعري، وثناء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد روي بعبارات مختلفة منها هذه العبارة التي قالها بعد أن عبَّر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم باستحسانه بقراءته، فقد قال رضي الله تعالى - عنه للنبي عليه الصلاة والسلام: «لو أعلم أنك تستمع لقراءتي لحبرته لك تحبيرًا»، والتحبير التزيين، وهو كما قلنا في كل شيء بما يناسبه، فالذي يناسب القرآن الكريم هو الترتيل المصوّر للمعاني القرآنية المربِّي للخشوع والعظة والاعتبار، والذي يجعل المعاني القرآنية تنساب في النفوس.
وقد رويت عبارة أبي موسى الأشعري بنصٍّ آخر يوضح الرواية الأولى، ولا يخالفه، أنَّه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لو علمت أنك تستمع لقراءتي لحسَّنت صوتي بالقرآن وزينته ورتلته».
فهذه الرواية تدل على أن التحبير والتحسين كان في الصوت لا في القرآن الكريم، وإنَّ ذلك التحسين كان في دائرة الترتيل، ولا شك أن حسن الصوت إذا اقترن بالترتيل ولم يتخالفا، ولم ينحرف القارئ إلى ألحان الأعاجم وإلى الغناء وتطريب السامعين ليتمايلوا يمينًا وشمالًا، ويقرنون ذلك بآهات مهوشة، تشبه المكاء والتصدية، كما كان أهل الجاهلية يفعلون، ولننتقل من بعد ذلك إلى ما روي عن عقبة ابن عامر أنَّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «تعلموا القرآن وغنوا به واكتبوه».
وقد قالوا أنه صحيح السند، وأن التغني المذكور في الحديث السابق، وهو مصدر غنَّى، وقد فسرنا التغنية في الحديث بأنها ليست الغناء الذي يقصد به القارئ أن يعتبر القرآن أغنية يطرب بها السامعين، إنما التغني عمل نفسي للقارئ التالي للقرآن، بأن يشبع الكلمات ويستمتع بها وبنغمها، ويراجع في كلماته متذوقًا لها، مدركًا لكل معانيها متفهمًا، محبًّا للقرآن غير متململ ولا متكلف، وقد شرحنا ذلك من قبل.
وكتابة القرآن الكريم أمر مطلوب، وقد كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يملي على الكُتَّاب ما حفظ من ربه، وما أن انتقل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلَّا كان القرآن الكريم كله مكتوبًا مسطورًا، ومحفوظًا ومرتلًا متلوًّا تلاوة نبوية.
وإن الأمر بالكتابة لا يدل على الاستغناء بها، فإنَّه إن حفظ الحروف والكلمات لا يروي الترتيل الذي نزل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذلك كان لا بُدَّ من الإقراء على مقرئ؛ ليحفظ المتواتر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الذي علّمه ربه الترتيل، كما تواتر القرآن المحفوظ، وكما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
268 - من هذا كله يتبين أن القراءة الصحيحة تكون بترتيل القرآن الكريم، لما علمه الله تعالى لنبيه في قوله تعالت كلماته: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18، 19].
وإن الاعتبار في القراءة التي يكون فيها التزيين يثبت بأن يمتلئ قلب القارئ بالخشوع، ويلقي به في نفوس السامعين، فهذا هو القياس المستقيم، ولقد قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما روينا من قبل: «أحسن الناس صوتًا من إذا قرأ رأيته يخشى الله تعالى».
وإن قراءة القرآن لا تجوز إلَّا بإخراج الحروف من مخارجها، والمد في موضعه، والغنّ في موضعه، والوصل حيث يقتضيه المعنى، والوقف حيث يوجبه المعنى، فذلك هو الترتيل.
ولقد روى حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق، ولحون أهل الكتاب، وسيجيء بعدي قوم يرجِّعون القرآن ترجيع الغناء والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم، وقلوب الذين يعجبهم شأنهم». رواه الترمذي في نوادر الأصول من حديث حذيفة.
ولقد سمع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مؤذنًا يطرب ويردِّد في الحروف، فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الأذان سهل سمح، فإذا كان أذانك سمحًا سهلًا، وإلا فلا تؤذن». رواه الدارقطني في سننه.
وإذا كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قد منع الغناء في الأذان، فأولى ثم أولى أن يمنعه في القرآن، فهو كتاب الله تعالى وخطابه، وهو الذي رتله كما صرح بذلك؛ إذ قال فيما تلونا من قبل: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32].
ويظهر أن مصر من قديم الزمان حملت بدعة قراءة القرآن بألحان الأعاجم، فقد قال القرطبي في كتابه (أحكام القرآن) بعد أن بيِّن أن الترديد حيث يكون على مقتضى المعنى، وما يومئ إليه النص القرآني، قال: فإذا زاد على ذلك حتى لا يفهم معناه فذلك حرام، كما يفعل القراء بالديار المصرية الذين يقرءون أمام الملوك والجنائز، ويأخذون على ذلك الأجور والجوائز، ضلَّ سعيهم، وخاب عملهم، فيستحلون بذلك تغيير كتاب الله، ويهونون على أنفسهم الاجتراء على الله بأن يزيدوا في التنزيل ما ليس فيه جهلًا بدينهم، ومروقًا عن سنة نبيهم، ورفضًا لسير الصالحين فيه من سلفهم، ونزوعًا إلى ما زين لهم الشيطان من أعمالهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فهم في غيِّهم يترددون، وبكتاب الله يتلاعبون، وإنا لله وإنا إليه راجعون، لكن قد أخبر الصادق أن ذلك يكون.
وإنَّ العدوى قد انتقلت من مصر إلى البلاد العربية، وما زالت العدوى تسري، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله تعالى العظيم.
اللهم اغفر لنا ولا تؤاخذنا بما فعل ويفعل السفهاء معنا، وألهمنا المحافظة على قرآنك الكريم من عبث العابثين ولهو اللاهين، وافتراء المفترين، إنك أنت وحدك الحافظ لكتابك، وإنه لمحفوظ إن شئت رب العالمين.
تم بحمد الله تعالى وعونه.